تكتفي «الأحزاب» في زحلة حتى الآن بمكبّرات الصوت في سيارات مركونة عند مفارق الطرقات تنشر الفكر الحزبيّ والعقيدة، معولة على تأييد الناخبين لتوجهاتها السياسية «العليا»، فيما تزور رئيسة الكتلة الشعبية ميريم سكاف الناخبين حيّاً حيّاً، وبيتاً بيتاً، لتضمن أوسع التفاف ممكن حول «الأمانة»
غسان سعود
بالأسود والأبيض، كانت المنازل المحيطة بالطريق، في حيّ الميدان، صغيرة وتعدّ على الأصابع، فيما يقطع عشرات الأهالي وخروف الطريق في انتظار «البيك» الذي تنبئ أجراس كنائس الحيّ باقتراب وصوله.
يصل بمرسيدس موديل العام (1968)، فيبدأون التدافع حتى يكاد الخروف يموت اختناقاً لا ذبحاً، فيما «البيك» يتقن لعبة الكاميرات فيختار أحد المتفرجين عن بعد ليلوّح له. بالأبيض والأسود، «البيك» هو جوزف طعمة سكاف. بالرماديّ هو إيلي جوزف سكاف. وأمس كانت الصورة ملونة تحل فيها مكبرات الصوت محل فرقة الزفة، وأعلام الكتلة الشعبية محل الكوفيات، والهواتف الخلوية محل المسابح، ومكعبات باطون بشعة محل البيوت الصغيرة، فيما أحفاد الأهالي أنفسهم وخروف يرتعش مما ينتظره، يترقبون وصول المرسيدس الجديدة.
تصل ميريم سكاف وتشق طريقها وسط المؤيدين صوب منزل أحد المرشحين على لائحتها، حيث اجتمع بعض أهالي حيّه والأقرباء وسائر أعضاء اللائحة والمخاتير. الكل يريد «سلفي» مع «الست»، و»الست» تريد أن يعلق في ذهن الكل، أولاً أن القوات والعونيين هم من يريدون إلغاء الكتلة الشعبية لا العكس، ووجوب تكريس انهزام «معمل الموت» في صناديق الاقتراع ثانياً. تكرر ذلك منزلاً تلو منزل ومكتباً تلو مكتب من المكاتب الانتخابية للكتلة الشعبية. تتصرف كأنها في بيتها، سواء في بيوت الزحليين أو في مكاتب كتلتها، مذكرة الزحليين بالقول والفعل بالفارق الخدماتيّ والإنساني الشاسع بين تأييد من يعرفهم ويعرفونه أباً عن جد، وتأييد أحزاب هم مجرد أرقام في حساباتها. من يسبق سكاف بخطوة لمراقبتها، يلاحظ موازنتها بين الخطاب العاطفيّ المتعلق بإرث «حبيب قلبكم إيلي» وهجومها في ما خص «حرب الإلغاء» بدل الدفاع، على نحو يؤثر بأنصارها ويشدّ عصبهم، فيما الغريب هو تلك القدرة الاستثنائية التي يتوارثها جينياً أبناء البيوتات السياسية على حفظ الوجوه والأسماء وربط الأشخاص بعضهم ببعض. جينياً أيضاً، يتوارثون القدرة على التبسم للجميع والشد على أياديهم والقول لهم: «نحن هنا. لا تعتلوا هم شيء»، وتربيت الأكتاف مرددين: «كل اتكالنا عليك»، وإيصال من يهمهم أمرهم إلى الباب الخارجيّ، والانزواء بمن يعانون مشكلة ما حتى لا يسمع كل الموجودين ما يريدونه، وغيرها الكثير من أدوات سحر الناخبين التي لا يعرف الحزبيون الشاحبون دوماً حجم تأثيرها. علماً أن جولات سكاف اليومية التي تبدأ عند السادسة عصراً وتنتهي قرابة منتصف الليل تواجه بسيارات لمناصري القوات اللبنانية مزودة بمكبرات صوت تركن عند مفارق الطرقات ويجتمع حولها بضعة شبان يرددون مع الكاسيت أغنياته.
ولا شك أن عامل القوة الرئيسي بالنسبة إلى سكاف هو أداء منافسيها، من التفاصيل الصغيرة مثل تربيتة الكتف وطمأنة الناخبين إلى وجودها قربهم في الحالات الطارئة، إلى التهاء الأحزاب بتقاسم الحصص بدل شبك أياديها وتحويل الاستحقاق الانتخابي إلى استفتاء شعبيّ عارم ومناسبة لإقفال دكاكين كثيرة وتحقيق نقلة تمثيلية نوعية. فحضور القوات والعونيين في زحلة كان يسمح لهم بتحويل المدينة منذ أكثر من أسبوعين إلى مهرجان سياسي متواصل يطلبون فيه جردة حساب كاملة بما قدمته البيوتات السياسية للمدينة بدل أن يطأطئوا رؤوسهم خجلاً حين تسأل سكاف عمّا قدمه نواب القوات والكتائب للمدينة؛ وكان يمكنهم اختيار حزبي من بينهم لخوض المعركة فيسأل عمّا قدمته المجالس البلدية المتعاقبة التي تدين جميعها بالولاء لسكاف، لكنهم اختاروا خوضها برئيس سابق للمجلس البلديّ لا يتحملون هم وزر تقصيره في ولايتين متتاليتين. ولم تكتف الأحزاب بتحميل نفسها ذنوب أسعد زغيب وخطاياه، بل «تعمشقت» بالنائب نقولا فتوش من جهة وتيار المستقبل من جهة أخرى. وقد عطل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، كل محاولات التحريض على تنسيق سكاف والمستقبل حين زار الحريري أخيراً، ولم ينف ما سرب عن مضمون اللقاء لناحية مطالبته عبثاً بالتنسيق في زحلة.
المستقبل يلتزم لائحة سكاف «زي ما هيّ» وحزب الله سيشكل لائحة خاصة به
والمدينة قرية كبيرة يعرف أبناؤها بعضهم البعض، ويعرفون بالتالي أن المرشح عن المقعد الشيعي على لائحة سكاف لا علاقة له من قريب أو بعيد بحزب الله كما يشيع خصوم الكتلة الشعبية، فهو شقيق أحد أبرز الموظفين في ماكينة سكاف منذ أكثر من خمس سنوات. وفي جردة سريعة يمكن القول إن الكتلة تجاوزت حتى الآن مجموعة فخاخ: أولاً حين أجرت رئيستها الترتيبات اللازمة لتطل في حفل إعلان اللائحة محاطة بميشال سكاف وغيره ممن كان يراهن خصوم الكتلة على شقهم لصفوفها. ثانياً حين عجز خصومها عن توفير غطاء كاثوليكي يتيح لهم التشكيك بكاثوليكية ميريم، وقد انطفأ هذا الحديث سريعاً في المدينة. وثالثاً حين ردت على مخونيها بحجة تحالفها مع حزب الله وتيار المستقبل، فيما ترفض التحالف مع القوات والعونيين بأنها لا تستطيع مطالبة الحزب أو المستقبل أو غيرهما بعدم التصويت للائحتها، لكن لا يوجد تحالف رسمي مع أي منهما، وإذا رغب العونيون والقوات في التصويت بالطريقة نفسها للائحة فأهلاً وسهلاً، علماً أن لائحة الكتلة تضم محبين لعون وجعجع وحزب لله والمستقبل.
في الحسابات الانتخابية التي تضجّ بها الماكينات، هناك شبه إجماع على امتلاك العونيين والقوات نفوذاً كبيراً يمكن في حال دخول عون وجعجع مباشرة على خط التعبئة أن يسمح للائحة زغيب بالتقدم على الكتلة الشعبية في الأقلام المسيحية بنحو ألف أو ألف وخمسمئة صوت. لكن مشكلة القوات تكمن في الأقلام المسلمة حيث ستتقدم لائحة الكتلة الشعبية على خصومها بنحو أربعة آلاف صوت. واحتساب الفارق يحتم تقدم «الكتلة» في نهاية اليوم الانتخابيّ بأكثر من ألفي صوت. علماً أن تيار المستقبل يلتزم لائحة سكاف «زي ما هيّ» فيما يرجح تشكيل حزب الله لائحة خاصة به تضم أكثر من عشرة مرشحين من الكتلة الشعبية، ومرشحي التيار الوطني الحر الثلاثة، ورئيس اللائحة الثالثة موسى فتوش. كذلك سيحصل العونيون على أصوات المؤيدين للنائب نقولا فتوش. وفي الحسابات الأولية، يتبين بالتالي أن العونيين سيحصلون على أصواتهم إضافة إلى أصوات القوات وفتوش وحزب الله، فيما سيخسر أربعة أو خمسة مرشحين من لائحة سكاف أصوات حزب الله. وبالتالي إن التزام لائحة زغيب التصويت للعونيين يمكن أن يسمح لهم باختراق لائحة الكتلة، لكن الأخبار المتداولة لا يفترض أن تطمئن العونيين. وبدوره يبدو رهان فتوش الذي يتجنب المقابلات الصحافية مفضلاً التواصل المباشر مع الناخبين على اختراق اللائحة بعيد المنال، فحظوظه أقل من حظوظ العونيين: العونيون لديهم ــــ مرة أخرى ــــ أصواتهم وأصوات القوات وحزب الله وفتوش، فيما فتوش لديه أصواته وأصوات العونيين والحزب فقط من دون القوات. ولا شك أن اختراق العونيين لائحة سكاف لن يغير من أهمية انتصار الكتلة الشعبية، فيما سيكون الخاسر الوحيد هو القوات اللبنانية.